أولادي الأعزاء، أحبائي …
إذا رن جرس الهاتف يوما، وكان على الخط الآخر صديق ينعي لكم أباكم في الغربة، فلا تحزنوا، ولا تبتئسوا. لا تشغلوا أنفسكم كثيرا بقبري، وأين سأدفن فكل القبور بعد الممات أوطان متشابهة.
ولا يهم أين ترقد جثتي، لأن روحي ستلحق بكم أينما كنتم، لتدفع عنكم شرور هذا العالم المتحضر المؤمن بالحروب الحضارية، بعدما فشلتُ حيا في تأمين الحياة الكريمة لكم كما كنت أحلمها، وأراكم من خلالها.
سامحوني، فلم أكن أعلم أنه حتى الأحلام الصغيرة أحيانا لا يستطيع الإنسان أن يترجمها إلى حقيقة… لم أكن أعلم أن الرياح تجري بعكس رغبة القوارب الصغيرة التي إن ابتعدت كثيرا عن الشاطئ ضاعت في عرض البحر.
كنت أعتقد أن من يجيد السباحة لا يخاف الماء، لكن لم أحسب حساب الأمواج العاتية، ولم أعرف من قبل أن البحر يثور بغير ميعاد، فيفتك بضيوفه، ومحبيه بدون رحمة.
فسمك القرش يهاجم الشواطئ الهادئة، فيفتك بالمستحمين الأبرياء ويجعل نهارهم ليلا حالك السواد.
ولدي الحبيب، نور عيني …
ها هي آلة الأورغ جالسة وحدها فوق قاعدتها السوداء، لا تجد في البيت من يعزف عليها لأن أصابع يديك غابت عنها، لم أتوقع أن يأتي يوم لا أجد مكانا لآلة عودك في السيارة التي نقلتني من ولاية إلى أخرى، فأهبه لصديق يزين فيه بيته، بعدما كان ينتظرك لتعزف عليه لحن الوفاء لأبيك الذي بالغ في أحلامه في هذه الدنيا..
ممنوع أن نحلم في هذا العالم الذي تسيطر عليه المصالح، والعلاقات التجارية، ممنوع أن نطلق العنان لخيالنا لأن خيال الشعراء غير مرغوب فيه في عالم المال، والحروب لأن القائمين عليها حولوا كل شيء إلى سلعة تباع وتشترى، حتى الشعر، والموسيقى، والأدب، والفن، والحب .. فماذا تركوا لنا؟
يريدون تحريم الحب، والأحلام، والأماني..
لا أريدك أن تنسى، إذا أتاك من ينعاني فلا تحمل عليه، ولا تحمله إثم نقل الخبر. ولا تزعل علي لأنني لم أترك لك أو لأخيك أي ميراث يساعدك في هذه الحياة، المليئة بالأخطار والمفاجآت المرعبة حتى يشتد عودك.
لا تغضب لأنني لم أترك لك بيتا جميلا تسكن فيه مع أمك وأخويك، أو سيارة تنقلك إلى المدرسة.
فقد تركت بدلا من ذلك الكثير من الهموم والمشاكل، والديون. وتركت لك بعض الأشعار لعلك إن كبرت تقرأها، وتغنيها بصوتك الجميل كما كنت تغني لي بابا فين. هل يكفي ما طبعته على خديك من قبلات منذ ولادتك حتى يوم وداعك؟
أتتذكر عندما كنت كل صباح تستيقظ مبكرا، وتأتيني لتطبع قبلة على خدي فأعيدها لك قبلات مضاعفة؟ أرجوك لا تزعل مني، فقد جئنا بك إلى هذا العالم لنحقق فيك ما عجزت عن تحقيقه في حياتي، فإذا بي أكرر فشلي معك، وأتركك تصارع الدنيا طفلا صغيرا يحمل في قلبه أحلام الطفولة البريئة التي لا تتجاوز لعبة صغيرة يحاول التجار أن يحتكروها ليغتنوا بها على حساب أحلام الصغار.
إن جاءك الناعي ولم ترني، فلن أكون بعيدا عنك. ستلاحقك روحي أينما كنت، ستسهر على راحتك، ستغني لك في أحلامك عندما تنام، أتذكر عندما كنت تنام على صدر أبيك أو أمك؟
ستبعد روحي عنك الأشباح المزعجة، ستقيك روحي حر شمس تموز عندما تلعب مع اخوتك في شوارع القدس العتيقة، ستكون روحي ظلك الذي لا يفارقك، ستصلي لك وتأخذ بيديك لعلها تساعدك في تحقيق أحلامك الصغيرة.
لن أتركك تغيب عني، سأسهر على راحتك وأنت نائم، أنسيت عندما أجريتَ العملية الجراحية، كيف كان الألم يجثم فوق صدري، ويعتصر قلبي، لم أتركك في المستشفى وحيدا، بل كنت أسهر على راحتك وأنت شبه نائم تئن من الألم، كنت تخاطبني بصوتك الملائكي قائلا:
بابا عندما أكبر أريد أن أكون طبيبا لأعالج الأطفال المرضى.
إن شاء الله يا حبيبي ستكون أفضل طبيب يحرص على مرضاه.
وعندما كنت تدندن وتغني أثناء اللعب، كنت تقول لنا:
أريد أن أصبح موسيقارا لألحن الأغاني للأطفال، لكي يغنوا معك أغانيك المفضلة.
أما عندما كنت ترسم بالريشة ألوانك الزاهية على الورق كنت تقول لنا: إنك ترغب أن تكون رساما لكي ترسم الأنهار، والأشجار، والأطفال، لترسم حبات المطر وهي تنزل في فم الأطفال.
كنت في أحلامك تفكر للآخرين، كنت ترى السعادة في وجوه أصدقائك، وأحبائك، فقد ورثت بعض حب أبيك للناس. فهل ستحافظ على تلك الأحلام لتكبر معك كل يوم أم سيغيرها الزمان كما غير كثيرا من الناس.
حبيبي…
لا تلمني على ما سهوت عنه، ولا على ما أخطأته، لعل حبي لك الواسع سعة هذا الكون يغفر لي، ولعلي أحظى ببعض حبك، فلن أزاحم أمك على كل الحب. ولعلك تحتفظ بخيالك الطفولي، بصورة والدك وهو يكيل لك القبلات بغير حساب.
وربما تحتفظ بصورة أبيك بشعره الأشيب معلقة على الحائط في مكتبك، أو غرفة نومك، لأطل عليك منها كلما جلست فيها.
لا تقلق بصورة أبيك أيام الشباب، فلم تكن موجودا آنذاك، كنت ترفض المجيء، وتركتني أنتظرك عشرين عاما على أحر من الجمر، وعندما شرفتنا استقبلناك بالدموع، والفرح أفلا تغفر تلك الدموع لأبيك بعض تقصيره بحقك؟